جلست بقربه لأشاهد
التلفاز وبعد لحظات شعرت بيده تستكشف ذراعي و تتلمس هنا وهناك، إلتفت إليه و نظرت إلى
عينيه الواسعتين، بدت نظراته سعيدة، أخبرته بأني لست عروسة أو دب... قام من مقعده وقبلني
عدة قبلات غضبت أمي وقالت : إبتعد عن ابنتي , ضحكت ...علقت أمي قائلة : لم أعتد أن
أرى غريباً يقبلك ، لم أستطع أن أمنعه، وفِي صباح الْيَوْمَ التالي إستقبلني خارج غرفتي
ومد ذراعيه طالبا مني ضمة وقبلة ، إقتربت منه وضممته ثم انحنيت نحوه وقبلته
قال لي
أحبك أمينة ، قلت له وأنا أحبك.
دعوني يا سادة أعرفكم
على هذا الشخص ، إسمه جمال و يبلغ من العمر الأربع سنوات ، حسنا ما رأيكم بأن أعيد
لكم سياق القصة من البداية؛ لأجلي لكم ضباب
الحيرة.
إحترت...
من أين أبدا نضم كلماتي ، وكيف أسيق القصة........
بينما
أصارع مجريات حياتي ، أقاوم بكل طريقة لأقود دفة قاربي نحو تيار الإيجابية الذي
بدأ يتباطأ كل يوم ورياح الحزن تعصف بقاربي الصغير كل يوم أقوى من
سابقتها ، وبينما أنا هكذا وإذ يظهر أمامي
طفلين ، نمت و استيقظت وإذا بوالدتي تحضر
طفلين إلى المنزل، بِنَت في السادسة من العمر و أخاها قارب الأربع سنوات ، باختصار
شديد أمي هنا تمثل دور المنقذ ووالدا
الطفلين في حرب وطيد ، ومنزلنا الواهن هو بمثابة ملجأ موقت إلى حين إنقضاء الحرب.
الطفل
يدعى جمال و بشكل عجيب صدف بأنه يحبني ، عندما رآني أول مرة أقبل فيها إلى بيتنا
أخذ يضحك ويضمني ، فرحت أمي لأنه أحبني ، وأخبرتني بأنه لم يتوقف عن البكاء و
الاستفراغ عند بيت المربية بالإضافة إلى ذلك فهو يعاني من حساسية من بعض الأطعمة ،
نظرت إليه وكلي عجب ، هل هذا الأمر جيد !
أخبرت
أمي بأن وضع منزلنا لا يناسب الأطفال وأنهم لن يشعروا بالراحة فمنزلنا ضيق جداَ
بالإضافة فأنت لا تستطيعين إحتمال إزعاج الأطفال ، أجابتني :ولكن أنا أحب الأطفال
، أجبتها بقليل من السخرية : أمي أنت لا تنامين إلى في هدوء كالموت ، وليس هناك
غرفة نوم للأطفال هذا يعني بأنهم سيبيتون معك ، ولا تدعيني أتحدث عن صبرك الطويل
لأني لا أريد أن أغضبك ، قالت لي : لا عليك هي فترة موقتة حتى يتوصل الأبوين الى
حل ، و المهم أنه شعر بالراحة معنا و الأهم أنه أحبك ، قلت خيراً إن شاء الله .
فِي
صباح الْيَوْمَ التالي إستيقظت مبكراَ وحضرت لهما الحليب مع الفطائر و أجلستهما أمامي
وأخذت أراقبهم وأقول في نفسي سبحان الله
ما أبدع خلقه أيادي صغيرة و ضحكات و كلمات لا أعرف دلالاتها ولكنها تبدو أنها صادرة عن فرح ، وبينما أنا كذالك أتأمل أقبلت أمي لتعيدني إلى
الواقع ، أخبرتني عن سبب تواجدهما بيننا، كان الأمر مزعج للغاية... أيتهافت الناس للزواج لكي يتأكدوا بأنهم أنجبوا الأولاد
ثم يتقاتلوا و يعلوا بعضهم على بعض ؟! ليس من الائق أن أخبركم بتفاصيل القصة فأنتم
بالتأكيد تعرفون قصصاً مشابهة.
دعوني أخبركم عن شقاوة جمال لا عن سخافة والده و
عناد أمه ، في البداية كان يبدو الامر سهلاً و لكن اتضح لي أنه أصعب من دراسة
البكالاريوس ، أمي هي العنصر الصارم بنظره فهو يهدأ أمامها و يستمع لما تقول ، أما
أنا فلست متاكدة سأحكي لكم ويمكنكم إخباري بأنفسكم ، بشكل عام أنا لا أخالطهم
كثيراً لأني لم أرد أن أشعرهم بصرامة أمي
الذي لا أفضله وثانياً لم أرد أن يعتادوا علي لأنهم سيغادرون بعد بضعة أيّام فلا
داعي للشوق الذي ليس له معنى ... أو ربما لأني لا أريد أن أحبهم بشدة ليأتي يوم يتلاشو
فيه من حياتي.
ولكن
مر شهر كامل على وجودهما و هذا هو الشهر الثاني يقبل بأيامه علينا ، أظن بأنهم
سيمكثون وقتا أطول مما كنت أظن ، أصبحت أجلس معهم زمن أطول ، كانت المشكلة الأساسية
مع جمال وقت قضاء الحاجة ، كان يدخل الى
دورة المياه و يلعب هناك و ترى ( الككا) في كل مكان ، أخبرته بأنه يجب أن يجلس هنا
و يفعل كذا ويجب أن يُعلمني حتى أقوم
بتنظيفه قبل أن يرتدي بنطاله وألا يلعب بالماء ، ولكن لم يبدو الكلام سهلاً عليه
، أخذت أعيد عليه الأمر مع قليل من الترغيب و الترهيب و بعد أسبوع من الصراع إستجاب
لطلب واحد فقط ألا وهو أن أنظفه ، المشكلة تكمن بأني أصبحت أقلق عندما يلمسني بحيث
أخشى أن تكون يداه أو ملابسه متسخة بسبب لعبه في دورة المياه ، وبالتالي كيف سأصلي
الصلوات الخمس؟ لذلك كنت أخبره بأنه إذا لعب في دورة المياه فلن يتمكن من ضمي أو
لمسي لأنه غير نظيف ، وعندما تقوم أمي بغسله ، أقوم بضمه و تقبيله و أقول له بأنه
نظيف... فيجيبني نعم أنا نظيف .
في
يوم ذهبت أمي إلى عرس ، فجلست معهم ، أخبرني
جمال بأنه جائع ، حضرت الطعام و أطعمتهما بيدي وبعد نصف ساعة أطفأت التلفاز و طلبت
منهما النوم ، بدأ جمال بالصراخ ، أخبرته بأنه حان وقت النوم رفض وأصر أن يشاهد
التلفاز ، أجبته بأنه يمكن أن يشاهد الرسوم المتحركة في صباح اليوم التالي و هو يتناول الكعك مع الحليب ، رفض
و استمر في الاعتراض .
(ليس من السهل أن تجلس على
ركبتيك لتقنع طفل لماذا يجب عليه أن ينام في الليل ، مهما بلغ الإنسان من العمر و
اكتمل رجاحة عقله و أصبح يقوم بمهمات الحياة بشكل سلس و من دون أي شعور، في بعض
الأحيان يقودنا عقلنا الباطني الى الروتين الذي عودناه عليه، وفجأة نضطر لأن ننحني
أمام أطفالنا لنشرح لهم الحياة من جديد ، لنعلمهم كيف ياكلون و يشربون ، وعندما نجاهد
لنقرب لهم مفهوم الأشياء البسيطة و تحاول إقناعهم بها، إنهم جديدون على كوكبنا إنهم ما زالوا جاهلون عن
كيفية سير عالمنا ، ألا تلاحظ حيرة نظراتهم حينما تتحدث معهم عن أمر ما فعالمهم
كان أبسط بكثير... عالم صغير مليء بالدفء و متوج بالحنان )
توقف
جمال عن البكاء و لكنه رفض أن ينام ، قلت له :لا بأس يمكنك اللعب و أنا سوف أنام
، و عندما تشعر بالنعاس إذهب إلى سريرك ، ذهبت الى غرفتي طلب مني ألا أقفل الباب
قال: أرجوك لا تسكري باب.
سبحان من خلقه ، تركت الباب مفتوحاً و جلست على
سريري أنتظره حتى ينام ، جلس قليلا على عتبة الباب ثم ذهب يلعب بالمكعبات ،
و بعد نصف ساعة أطفأت النور و استلقيت على السرير ولكن بعد دقائق لم أعد أسمع
قرقعة المكعبات ، و أصبح الجو أكثر هدوءً ، قلقت و نهضت من فراشي و مشيت نحوه
بخطوات هادئة و إذا هو نائم في فراشه و شخيره يراقص سكون الليل .
كأنه
كان ينتظرني كي أنام ليشعر بالراحة و الطمأنينة ويستسلم لسطوة النوم .
بعد
مرور ثلاث أسابيع من الشهر الثاني أخبرتني أمي بأنهم سيعيشون مع والدتهم ، وأنه
بعد ساعة واحدة سيرحلون من بيتنا ، تعجبت هكذا فجاة يذهبون كما جاءوا ! أسرعت إلى
الثلاجة و أحضرت لهما طبق الحلوى الذي حضرته خصيصا من أجلهما وأجلستهما أمامي و
بدأت أطعمهما لقمة لك و لقمة لكِ، أخذت أحدث نفسي و أقول أتمنى أن نكون قد أحسنا
إليكما و ربما تمكنا من تعليمكما شيء أو شيئين . قبلتهما وذهبت الى غرفتي بينما
هما يشاهدان التلفاز ، و بعد ساعة لم يعودا بيننا و بعد يوم أصبح البيت في سكون
مطبق لم يعد هناك صوت لأقدام تركض ، ضحكات تحلق في الجو ولا حتى صراخ يزلزل العقل .
رغم
مرورهما السريع على خط حياتي إلا أنني تعلمت أمورا كثيرة ، جعلاني أنهض من أجلهما،
بالرغم من غرقي في بحر وحدتي كنت أبتسم لهما أستمع الى حديثهما أتأملها ، فأنا لم
أخالط أطفالاً منذ زمن طويل ، و أنا كنت أصغر إخوتي ، لم أجرب شعور الأخ الصغير ، مع
أني في أحيانٍ كثيرة أعتني بإخوتي الكبار و أدافع عنهم أمام أمي ، و عندما تذهب أعاتبهم
.
فرحت من أمي كثيراَ، فلقد علمت الطفلين الصغيرين
أموراَ كثيرة ، رغم صرامتها و لكن عاد عليهما بالنفع أصبحا يلبسان ثيابهما
بنفسيهما ، و يعرفان كيفية إستخدام دورة
المياه بطريقة صحيحة ، و يأكلان بنفسيهما، و بين فترة وأخرى أطعمهما بيدي من باب
الحنان ، وجدت أنهما يستمتعان بذلك .
(أخيراً ارأفوا بمن هم أضعف منكم، فربما يكون ظهورهم في حياتكم إختبار
من الله، ليرى ما
أنتم فاعلين بقوتكم)
روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله
عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ
لِأَخِيِه مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ))
بقلم :
أمينة عبد القادر عثمان.